top of page
  • أ. السعد المنهالي

"التجريد.. عالم ما بعد الصورة" مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية - ديسمبر 2020

بقلم الأستاذة: السعد المنهالي



بفضل من الله وتوفيقه، تم الإنتهاء من تعاون جديد مع مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية العريقة لنختتم بها إنجازات هذا العام الصعب.


الحمدلله، تم إختيار إحدى الأعمال كغلاف العدد بالإضافة لحصول الموضوع على أفضل أطروحة "Best Edit" لشهر ديسمبر.

كل الشكر والإمتنان لجهود الأستاذة القديرة السعد المنهالي على جهودها المبذولة وقلمها والذي زاد الموضوع تشريفاً. كما أشكر الأخ سمير على لمساته التصميمية الراقية والمعهود بها منذ الأزل. ولا أنسى طاقم المجلة المتميز والذي لولا تفانيهم وجهودهم الكبيرة لما رأى الموضوع الضوء.


شكراً من القلب ❤️

=================================================================================================



مصور فوتوغرافي شغوف بتقنية "الماكرو" يسافر بعدسته بعيدًا إلى عوالم الحشرات، ليكشف لنا ما تحويه من سِحر "تجريدي" يتجاوز في أبعاده ما نراه عنها في الواقع أو حتى في مخيلتنا. أما غايته فهي.. إعادة ترتيب علاقتنا بهذه الحشرات.


كان ذلك الجزء المتعلق بالحشرات في العرض التقديمي الذي ألقيتُه أمام زهاء 300 شخص، هو الأغرب والأكثر تشويقًا على الإطلاق. فقد كان من الصعب جدا أن أشير إلى الموضوع بهدوء، بسبب ردود الأفعال الأولية التي كان من المتوقع أن يبديها المتابع، من تقزز إزاء ما يتعلق ببعض الحشرات؛ ولذا أنقذتُ الموقف باستخدامي صور رؤوس الحشرات التي التقطها المصور الفوتوغرافي "يوسف الحبشي" بتقنية "الماكرو". فقد بدت بتشكيلاتها وألوانها وكأنها زهور. كان ذلك الاقتراب مؤثرا جدا -كما خططت له- لاستحضار عاطفة المتابع وإبلاغه بالرسالة المنشودة: الحشرات حلقة أساسية في سلسلتنا الغذائية وحاسمة لاستمرار الحياة!


بعـد خمسة أعـوام على ذلك، وأثناء تجولي في معرض "اللامرئي" والذي خصصه الحبشي لموضوع الجزء المتعلق بقرون الحشرات وفكوكها، كان أكثر ما لفت انتباهي اثنتا عشرة لوحة معدنية بديعة إلى يمين المدخل؛ والحقيقة أني حتى لو مكثت يوما كاملا في البحث عن علاقتها بموضوع المعرض، لَمَا نجحت. ولمعرفتي الكبيرة بالحبشي، استبعدتُ تمامًا أنها توجد في المكان اعتباطًا، كأن تكون مثلا جزءا من جدار المعرض الخاص بـ"منارة السعديات" في أبوظبي. منذ أن تعـرفت إلى الحبـشي وأنا أتعامل معه بحساسية "مفرطة". وأظن أنه يصح لي تماما استخدام هذه المفردة؛ فهو شخص دقيق جدا وشديد العناية بعمله إلى أقصى حد. وعادة ما يكون شخص بهذه الصفات آخر من نودّ التعامل معه في العمل، غير أن هذه النوعية بالذات لديها شغف لا محدود بما تقوم به، واستعداد مطلق للذهاب إلى أعمق ما يمكن تصوره وتحقيق النجاح حتى أبعد الحدود. وفي تلك اللوحات الاثنتي عشرة المعلقة، تجسَّد ذلك العمق الذي ذهب إلى أبعد ما يمكنني تصوره! رغم نجاح الحبشي المدوّي في التصوير بتقنية الماكرو واقترابه من وجوه الحشرات وعيونها وفكوكها خلال الأعوام العشرة الماضيــة، مـا زال مــأخوذًا بهذا العالم ومشدودًا إلى مناطق غير مأهولة في مملكة الحشرات.. إلى ما وراء الصورة وما بعد الماكرو.. إلى التجريد في معناه الأعمق، في استخلاص الجوهر من الشكل الحقيقي.


يعتمد التجريد على البعد بالشيء عن شكله في الحياة الطبيعية، سواء أكان فكرة أم كلمة أم صورة أم غيرها من الأمور المحيطة والمعلومة. وقد أصبح هذا الأسلوب يُستخدم لإحداث تأثير في النفس عبر النفاذ إلى عمقها؛ وقد ظهر في التصوير أول مرة عام 1842 على يد الطبيب والعالم والمؤرخ والمصور "جون ويليام دريبر". إذ استخدَم هذا الأخير فن التصوير بذكاء لتقديم أدلة ملموسة على نتائجه حول ضوء الشمس وتأثيرات الأشعة الطولية على نمو النبات، مستخدمًا المطياف؛ الأمر الذي أدى إلى تشتيت أشعة الضوء. هنالك تمكن دريبر من رصد نمط مرئي جديد لم يُعرَف من قبل. ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، ومع التقدم المذهل في تقنيات التصوير، دأب المصورون على التقاط ما لا يمكن رؤيته بواسطة العين المجردة. إنها الأسرار الجديدة التي تثير الحماس في نفوس الآخرين تجاه الأمور العادية والمكتشفة سابقا. في الصور المجردة، تكمن الإثارة في بعدها عن الموضوع الظاهر والمعروف واستخلاص جوهر جديد تماما يكاد يكون منفصلا عن أصله. في تلك الزاوية من معرض الحبشي "اللامرئي"، كان التجريد مجسَّدًا على أصوله.. فقد كان كياني كله يتساءل: "ما هذا؟".

إنه الجوهر، الكُنه، العمق.. إنها حشرات!!


إنها صورة جديدة تمامًا قد تتشابه أو لا تتشابه مع الشكل الأصلي للصورة العادية؛ إنها رحلة جديدة للنظر إلى العالم والأشياء بطرق مختلفة ومثيرة في الوقت ذاته. ولكنها رحلة يقودها إحساس المصور، تفتح الباب لتصورات وتساؤلات لا حدود لها في ذهن المشاهد وخياله. إن "النُّظُم العاطفية لدى البشر أقوى بكثير من النظم المنطقية"؛ ولذا كان لِلَّعب على النظام الإدراكي لدى المتلقي تأثيرٌ أعمق وأشد بكثير، مما يسمح بنشوء تواصل معه من خلال مشاعره، ويرمي في النهاية إلى بلوغ هدف المصور.


يقول الحبشي: "على الرغم من صغر حجم هذه المخلوقات، فإن وجودها ودورها الحيوي الفاعل يفوقان حجمها أضعافًا في الأهمية بالنسبة إلى كل شيء من حولنا، سواءً أكان ذلك للبشر أو للحيوانات أو حتى للنباتات. هذا ما يجب أن يدركه الإنسان.. وسأسعى إلى تحقيق ذلك بأي وسيلة متى ما تمكنت". وهو بذلك المنحى الجديد في أعماله، يميل إلى إثارة ردود فعل قوية من النظام الإدراكي لدى متلقيه، خدمةً لرسالته التي تجعلنا ننظر إلى هذه المخلوقات بطريقة مختلفة. فإلى أي حدّ نجح مصورنا في سعيه؟


Featured Posts
Recent Posts
Archive
Follow me
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Instagram Social Icon
bottom of page